العرب و هتلر المنتظر

العرب و هتلر المنتظر

شىء غريب يلحظه المرء فى القاهرة.
سئلت فى أكثر من جلسة مع مجموعات منفصلة من أناس لا تعرف بعضها بشأن موضوع واحد يبدو أنه يشغل بال كثير من المصريين المهتمين بالأمور العامة ، انه موضوع هتلر و ألمانيا أثناء حكمه.
للأسف فان كثيرا من العرب لا يزالون مصرين على العيش فى الماضى و الأدهى من دلك هو أن هدا الماضى لا يهمهم بالمرة بل هو منبت الصلة بكل ما يمثلون من تيارات و اتجاهات.
من ضمن تلك الأوهام التى لا تزال تشغل عقلية بعض المستثقفين المصريين موضوع الهولوكوست و حقيقة وجوده و العدد الصحيح لضحاياه و اضطرار الدولة الألمانية الى اللجوء اليه كحل نهائى بل أن البعض يتطوع شارحا أن الحرب العالمية التى بدأتها ألمانيا انما هى قد فرضت عليها فرضا بحيث لم يكن هناك من مناص أمام ألمانيا الا دخولها !!
أستطيع أن أقدر مشاعر العرب تجاه اسرائيل بعد أحداث غزة و لبنان و حفريات المسجد الأقصى و أستطيع الى حد بعيد تتبع المنطق القديم – عدو عدوى هو حليفى – و لكن لدلك التتبع حدود و لهدا التقدير نهاية. لا يمكن التدرع بكراهية اسرائيل لنقف كعرب و مسلمين جنبا الى جنب بجوار واحد من أكبر مجرمى التاريخ نبحث له عن مبررات و نستميح له الأعدار ، فهدا غير مقبول.
ان دراسة ماضى ألمانيا فى الحقبة النازية و ما أعقب دلك و ربطه بما سبق على هده الحقبة العجيبة من أحداث لهو من أعقد الأمور نظرا لعوامل التشابك و الخلط و الغرض التى اعتورت كتابة التاريخ السياسى و الاجتماعى لتلك الفترة الغير خاضعة لمنطق كل التاريخ. ان هوس محاربة الشيوعية فى عشرينات القرن الماضى - عقب انهيار السوق الاقتصادى الحر و انهيار نظرياته و أفكار مريديه – بالاضافة الى عوامل خاصة بألمانيا متمثلة فى اتفاقيات فرساى المهينة لها و فرض التعويضات المجحفة بها و الاستقطاب الشديد على جانبى السور السياسى و الفكرى - الدى كان وقتها يفصل بين المعسكرات –أوجد دلك كله نوعا من محاولة الاحتماء بالثابت - الدى لا يمكن الاختلاف عليه بين الألمان خصوصا و الأوروبيين بصفة عامة - و هو الوطنية .
ان لجوء الأوروبيين فى غرب أوروبا الى الوطنية فى مواجهة أزمات كبرى هو أشد الأمور شبها عندنا باللجوء الى الدين عندما تدق نواقيس الخطر. ان ما يمثله الدين فى ثقافتنا تفوم بتمثيله الوطنية فى ثقافتهم – الملاد الأخير و الثابت الدى ليس عليه خلاف.
من الخطأ الشديد قياس أحداث الفترة الاستثنائية التى أتت بهتلر الى السلطة على أنها تمثل اتجاها راسخا فى عقلية الألمان الموجودين اليوم.
لقد شاهدت بنفسى مؤتمرا فى عام 1994 عقد فى لايبزج بألمانيا الشرقية كان الضيف الأساسى فيه هو يوسف بورج وزير الداخلية الاسرائيلى - المتشدد دينيا و الدى احتفظ بوزارته مند أول يوم لانشاء اسرائيل و حتى أواخر الثمانينات – و هو من مواليد تلك المدينة لايبزج و لغته الأم هى بالطبع الألمانية – سمعته يروى كيف أن كبير حاخامات ألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى أرسل الى القيصر فيلهلم يتشكر له و يبارك مجهوده الحربى ضد أشد الدول اساءة لليهود فى التاريخ و التى كانت تطلق حملات الابادة الواحدة تلو الأخرى ضد اليهود تحت اسم البوجروم – روسيا القيصرية .
كثير من الألمان يعرفون حقيقة أن عددا كبيرا من يهود ألمانيا حاربوا باخلاص فى صفوف الجيش أثناء الحرب الأولى بل أن كثيرا منهم حصلوا على أوسمة و نياشين للأداء المتميز الدى قاموا به فى تلك الحرب التى تميزت بالعنف الشديد و المواجهات الدامية بين آحاد الجنود و بالتالى ارتفاع نسب الاصابات و العاهات.
لابد لهؤلاء العرب المنبهرين بهتلر أن يعرفوا الكثير جدا عن هده الفترة قبل أن يصدروا عليها حكما لأن التجربة التى لم يزد عمرها عن 12 عاما لا تمثل بأى حال من الأحوال حضارة و تاريخ ألمانيا الممتد لأكثر من 1000 عام بل أن الألمان اليوم يشعرون بنوع من الاهانة و الظلم عندما لا يجد العالم فى كل ما قاموا به من اسهامات فى الحضارة الانسانية غير دلك النظام الاشتراكى القومى الدى دمر أول ما دمر ألمانيا نفسها.
شىء آخر لابد من دكره فى هدا الأمر و هو أن الدفاع عن هتلر و أفكاره العنصرية و اطراء ما قام به لا يحسن من وضع قضايانا و لا يجلب علينا سوى احتقار العالم الدى يندهش من أمر قوم يعيشون تحت أشد الحكومات قهرا فى عالم اليوم ثم يقومون بمدح أشد الحكومات قهرا فى التاريخ الانسانى و كأنهم يطلبون المزيد من القهر !!!
ان ما دفع بالألمان الى دخول الاتحاد الأوروبى و قبول العملة الموحدة التى ليس من ورائها طائل الا الارتباط بموكب المنتصرين و تحقيق القبول الدولى لألمانيا بغسيل ما علق بالتاريخ الألمانى من بقع و قادورات.
أمر حدوث المحرقة لا شك فيه على جميع المستويات و لكن الشك يحوم فقط حول مداها و عدد المتأثرين منها.
لو أنك عقدت هده المقارنة بين هتلر و ستالين هنا فى ألمانيا لما سلمت من سهام المتقززين من المقارنة لأن الألمان لا يرون أى ندية بينهم و بين الروس أى أن هتلر هو باب شاد فى تاريخهم و لا يصح أخده مرجعا و دليلا على الطبيعة الألمانية و هدا بالتأكيد صحيح الى أبعد الحدود.
تحت يدى مدكرات مؤسس الحزب الشيوعى المصرى محمود حسنى العرابى الهارب الى ألمانيا عام 1931 خوفا من بطش حكومة اسماعيل صدقى فى مصر و قد استقر فى برلين لسبعة أعوام و قارىء هده المدكرات لا يسعه الا أن يقدر أن ألمانيا لم تكن هكدا كما يحب البعض أن يصفوها و قولى هدا لأدلل على أن الطبيعة الدموية ليست هى الغالبة على الألمان و بالتالى فهتلر كان الاستثناء و ليس القاعدة.
أما عن موضوع البادىء بالحرب و الاضطرار الى خوضها فلا أجد – تعليقا على دلك - أفضل مما قاله أحد المدرسين فى المرحلة الثانوية أن هتلر لو كان قد توقف بعد ضم اقليم السوديت لكان أعظم سياسى أنجبته ألمانيا قاطبة لأنه أعاد أرض الأجداد و استرجع سيادة البلاد بدون قطرة دماء على أى جبهة حربية .. و لكنه الطمع يا صديقى.
بالطبع هتلر بدأ الحرب بالارادة المنفردة عارفا و فاهما لما هو مقدم عليه و لا محل للقول بغير دلك لأن هدا ثابت تاريخيا و لست أدرى أية ميزة تعود على العرب من انكار تلك الحقائق.

شىء آخر أود ذكره هنا و هو أن الالمان لم يكونوا دائما هكذا دمويين و الدليل أنه فى معركة سيدان عام 1870 بين الجيوش الألمانية و الجيوش الفرنسية حدث أن القيادة الفرنسية لم تقم باعلام جنودها و ضباطها عن اتفاقية الصليب الأحمر - التى كانت وقتها حديثة للغاية لم تبلغ عامين من العمر – و لا بأحكامها التى تقضى بعدم القيام بأى عمل من أعمال الحرب ضد المستشفيات الميدانية و الفرق الطبية العاملة فى ميادين الحروب حيث أنهم ليسوا من القوات المحاربة و بالتالى لا يهاجموا و يتركوا و شأنهم ليعملوا على انقاذ الجرحى و اسعاف المصابين – لم يكن الجنود الفرنسيون الطبيون يعلمون بأمر تلك الاتفاقية الحديثة مما ترتب عليه هروبهم فى عجلة و فوضى أمام زحف الجيش الألمانى المتقدم و الذى كان يعرف بأمر الاتفاقية و يطبقها و لم يهاجمهم و لم يستغل فرصة جهلهم بها مما أدى الى زيادة كبيرة فى اصابات الفرنسيين بسبب هذه الفوضى التى أوقعتهم فيها قيادتهم.
لو أن الألمان كانوا دمويين سفاحين لما احترموا تلك الاتفاقية و لهجموا على المستشفيات و لكن شيئا من ذلك لم يحدث.
قارن بين هذا الموقف و موقف هتلر فى غزو الاتحاد السوفيتى عندما أعلن أنه حتى المستسلمين سوف يتم قتلهم مما دفع بالمقاومة السوفيتية الى حدود جديدة من الاصرار على أساس أن الموت طال ما لا مفر منه فلماذا نستسلم اذن ؟
الواقع أن هتلر كان قاسيا جدا – بالذات - فى تعامله مع القوات و الشعب فى الاتحاد السوفيتى مما أدى الى تعاظم المقاومة ضد تقدمه و لهذا أقول دائما أن تصرفات هتلر – الذى أتى من النمسا - ليس معيارا أمينا للأداء الألمانى.